شبكة قدس الإخبارية

من جنين إلى الشجاعية.. قصة المقاتل سر "الحدث الأمني الصعب" 

photo_2025-08-03_20-31-27

متابعة - شبكة قُدس: في صورة قديمة تعود لأكثر من عقد من الزمن، يقف فتى نحيل بملامح طفولية على منصة صغيرة في إحدى مدارس شرق غزة، يقرأ بصوت شجي أمام جمع من الطلبة. خلفه لافتة كُتب عليها “المسرح الترفيهي”، وإلى جانبه زملاؤه الذين ينصتون إليه في خشوع. لم يكن أحد ليتخيل آنذاك أن هذا الفتى، أحمد إبراهيم حمدية، سيصبح لاحقًا أحد أبرز مقاتلي الصفوف الأمامية، وأن صوته الذي أبكى المصلين في مساجد جنين سيسكن ذاكرة رفاقه في ميادين القتال بحي الشجاعية، حيث ارتقى شهيدًا في اشتباك بطولي مع قوات الاحتلال.

وُلد أحمد في مدينة جنين، المدينة التي تحمل إرثًا طويلاً من المقاومة، لعائلة انغرس في وجدانها حب القرآن والعمل الدعوي والنضالي. أُبعد والده عند الإفراج عنه من سجون الاحتلال عام 2008 إلى غزة. هناك بدأت الملامح المقاومة لأحمد تتشكل، فكان ناشطا في صفوف الكتلة الإسلامية في مدارس غزة، بل كان قارئًا حافظًا للقرآن وصاحب صوت رخيم ترك أثرًا في كل من سمعه. في محيطه الصغير، كان “الصوت الشجي” الذي يقود المصلين في الصفوف الأمامية ويشارك في النشاطات الدعوية والاجتماعية، تاركًا انطباعًا بأنه يسير بخطى ثابتة في طريق العلم والإيمان.

لم تكن قصة أحمد فردية، بل امتدادًا لحكاية عائلة ارتبط اسمها بالشهادة منذ سنوات طويلة. والده، إبراهيم حمدية، ارتقى في الأشهر الأولى من الحرب، تاركًا أثرًا لا يُمحى في نفس أحمد وإخوته. أما شقيقه خذيفة، فقد سبقه إلى الميدان واستشهد قبله.

ولم يتوقف إرث العائلة عند ذلك؛ فالأعمام أيضًا كانوا جزءًا من هذا السجل النضالي. عمه أشرف ارتقى شهيدًا خلال الحرب قبل أشهر، أما محمد، فكان منفذ عملية العفولة الاستشهادية عام 2002، التي سُجلت كواحدة من أبرز العمليات الفدائية في تلك الحقبة. بهذا الإرث العائلي، كبر أحمد وهو يدرك تمامًا معنى أن تكون ابنًا لبيت تربى على فكرة أن البندقية والقرآن طريقان لا ينفصلان.

كان أحمد حاضرًا في كل تفاصيل العمل الدعوي والاجتماعي في منطقته. حضوره كان يتجاوز مجرد المشاركة؛ فقد تميز بقدرته على جمع الناس حوله بصوته الهادئ وكلماته المؤثرة. ومع اندلاع حرب الإبادة، وجد أحمد نفسه في قلب ما بات يُعرف بـ”الأحداث الأمنية الصعبة”، حيث شارك في مواجهات ميدانية وأعمال مقاومة أربكت الاحتلال خلال الأشهر الأخيرة.

رغم انشغاله بالعمل الدعوي والمقاوم، لم يتخلَّ أحمد عن حلمه. التحق بكلية الشرطة، وتخرج منها قبل أشهر قليلة برتبة ملازم بحري. لكن الحياة المدنية لم تكن لتأسره؛ فمع اندلاع الحرب على قطاع غزة، اختار أن يكون في الصفوف الأمامية للمواجهة.

وعلى المستوى الشخصي، عقد أحمد قرانه قبل خمسة أشهر فقط، ليبدأ رحلة تكوين أسرته الصغيرة، غير أن الحرب باغتته سريعًا، لتسبق أحلامه وتضعه أمام قدره الذي اختاره عن قناعة: الشهادة.

في حي الشجاعية شرق غزة، الذي صار عنوانًا للمجازر والصمود، خاض أحمد اشتباكًا بطوليًا مع قوات الاحتلال. لم يكن ذلك أول اشتباك يخوضه، لكنه كان الأخير. في تلك اللحظات التي اختلط فيها رنين الرصاص بتلاوة الآيات التي طالما صدح بها صوته، ارتقى أحمد شهيدًا، مكللًا رحلته القصيرة بمجد اختاره عن وعي وإرادة.

قصة أحمد ليست مجرد سيرة شاب فلسطيني حمل السلاح، بل هي انعكاس لمسار جيل كامل تربى في بيئة لا ترى تناقضًا بين التدين العميق وحمل البندقية. هذا الجيل الذي خرج من مقاعد الدراسة والمخيمات إلى خطوط المواجهة الأمامية، مدفوعًا بوعي ديني ووطني يتجاوز حدود الحياة الشخصية.

أحمد، بصوته الشجي وهدوئه المعروف، لم يكن مجرد مقاتل. لقد مثّل حالة من التكامل بين الإيمان والفعل المقاوم، بين الدعوة والسلاح، بين الأمل الذي كان يبثه في جلساته الدعوية واليأس الذي زرعه في قلوب أعدائه على خطوط النار.